انتخابات كندا- غزة معيارًا لتصويت المسلمين وتحديات الهوية والسياسة

المؤلف: جمال الطاهر09.07.2025
انتخابات كندا- غزة معيارًا لتصويت المسلمين وتحديات الهوية والسياسة

تشهد كندا يوم الاثنين الموافق 28 أبريل/ نيسان الجاري الانتخابات التشريعية الخامسة والأربعين في تاريخها، وسط ترجيحات قوية بفوز ساحق للحزب الليبرالي بولاية رابعة على التوالي. يقود الحزب في هذه المرحلة الزعيم الجديد، ماك كارني، الذي يخلف رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو. كان ترودو قد أعلن استقالته المدوية في 9 مارس/ آذار المنصرم، وذلك بعد تصاعد الضغوط عليه ومطالبات حادة من داخل حزبه بالتنحي، إثر أزمة سياسية مستعصية لم يتمكن من إيجاد حل ناجع لها.

السياقات والرهانات

تتسم هذه الانتخابات بأهمية استثنائية بالنسبة لجميع الكنديين، نظرًا للسياقات الدقيقة التي تجري فيها، وكذلك لطبيعة الرهانات والتحديات الجسام التي تواجه المواطنين في شتى المجالات.

على صعيد السياقات، تأتي هذه الانتخابات في خضم وضع سياسي واقتصادي بالغ التعقيد. سياسيًا، تعاني كندا من تحديات داخلية متراكمة، بعضها ناتج عن سياسات رئيس الوزراء السابق ترودو، والتي أدت في النهاية إلى استقالته تحت وطأة الفضائح والتوترات الداخلية في حزبه، بالإضافة إلى الخلافات العميقة على مستوى تحالفه البرلماني مع حزب "الديمقراطيون الجدد".

يزيد الأمر تعقيدًا الارتفاع المتزايد في معدلات التضخم، وغلاء الأسعار وتكاليف المعيشة، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، بالإضافة إلى أزمة السكن الخانقة التي تسببت في ارتفاع جنوني في أسعار المنازل والشقق، وأثقلت كاهل المستأجرين بأعباء مالية تفوق قدرتهم على التحمل.

كما يبرز التغير المناخي كواحد من أبرز التحديات والرهانات المطروحة في هذه الانتخابات، وذلك في ظل ما تشهده كندا من تأثيرات متزايدة على البيئة والمناخ، مثل حرائق الغابات المدمرة والفيضانات الجارفة.

من بين الرهانات الأخرى ذات الأهمية القصوى والتي تكاد لا تغيب عن أي انتخابات، يبرز ملف سياسات الهجرة الذي عاد ليثير نقاشات حادة في الآونة الأخيرة حول كيفية الموازنة بين تلبية احتياجات سوق العمل، والحفاظ في الوقت ذاته على الهوية الثقافية والاجتماعية المتفردة للبلاد. يضاف إلى ذلك ملف الصحة العامة والرعاية الصحية، وخاصة بعد جائحة "كوفيد-19" التي كشفت عن مواطن ضعف في النظام الصحي، مع التركيز بشكل خاص على تحسين الخدمات وتقليل فترات الانتظار الطويلة في المشافي الكندية.

وفي سياق مغاير، شهدت كندا في عهد ترودو تراجعًا ملحوظًا على مستوى موقعها وتأثيرها في العلاقات الدولية، وذلك في ظل التوترات والتحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها العالم، بدءًا بالحرب الروسية الأوكرانية وانتهاءً بالحرب الدائرة في غزة، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة والصين، ودور كندا في المنظمات الدولية الفاعلة.

علاوة على كل ما سبق، تبرز مشكلة الرسوم الجمركية الباهظة التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب في الفترة الأخيرة على البضائع الكندية المصدرة إلى الولايات المتحدة الأميركية (25%)، مما يجعلها التحدي الأبرز والرهان الأكبر في هذه الانتخابات المصيرية.

الديمغرافيا المسلمة في كندا

وفقًا لتقديرات مؤسسة "إحصائيات كندا" الحكومية لسنة 2021، يبلغ عدد المسلمين في كندا حوالي مليون و800 ألف نسمة، وهو ما يمثل 4.9% من إجمالي عدد السكان. يمثل هذا التطور اللافت نموًا ملحوظًا يعزى إلى عوامل متعددة، بما في ذلك الهجرة المستمرة وارتفاع معدل الولادات في أوساط الجالية المسلمة.

ينتشر المسلمون في معظم المقاطعات الكندية، مع وجود كثافة سكانية أكبر في مقاطعتي أونتاريو (Ontario) ذات الغالبية الإنجليزية، وكيباك (Québec) ذات الغالبية الفرنسية.

يبلغ عدد المسلمين في أونتاريو 943 ألف نسمة، وهو ما يمثل 6.7% من إجمالي سكان المقاطعة، منهم 626 ألفًا يقطنون في مدينة تورنتو (10.2% من إجمالي سكان المدينة). أما في كيباك، فيبلغ عدد المسلمين 422 ألف نسمة، أي ما يعادل 5.1% من إجمالي سكان المقاطعة، منهم 366 ألف نسمة في مونتريال يمثلون 8.7% من إجمالي سكان المقاطعة. وتشكل الجالية المسلمة في هاتين المقاطعتين مجتمعة ما يقرب من 80% من إجمالي عدد المسلمين في كندا.

الموقف من غزة قاعدة للفرز

بالإضافة إلى الرهانات والتحديات العامة التي تواجه المجتمع الكندي ككل، يجد المسلمون في كندا أنفسهم أمام رهان خاص ومهم، وهو الموقف من العدوان على غزة. يعتبر العديد من النشطاء وقادة الرأي أن هذا الموقف يمثل فرصة ثمينة لتثمين الصوت الانتخابي للمسلمين، ربما للمرة الأولى، وذلك بناءً على مواقف الأحزاب الكبرى المتنافسة من هذه الحرب، بين مؤيد ومندد بشدة.

لقد كانت هذه الانتخابات بمثابة فرصة "تاريخية" لإطلاق نقاش جوهري، ربما غير مسبوق، في أوساط المسلمين الكنديين، يتعلق بتحديد الوجهة التي يجب أن يتجه إليها الصوت المسلم في هذه الانتخابات الحاسمة.

على الرغم من الاتفاق الغالب بين المسلمين على أن موقف الأحزاب المتنافسة من الحرب على غزة، سواء بالإدانة أو التأييد، يمثل عنصرًا حاسمًا في تحديد وجهة الصوت المسلم، إلا أن هناك انقسامًا في وجهات النظر. فمنهم من يرى أن الموقف من الحرب هو مجرد واحد من بين اعتبارات أخرى يجب أخذها في الحسبان عند تحديد وجهة التصويت، مثل الوعود الانتخابية في مجالات حيوية مثل السكن والهجرة والصحة والسياسات الخارجية. ومن ناحية أخرى، يعتبر البعض الآخر أن الموقف من الحرب هو المعيار الوحيد الذي يجب أن يحكم عملية التصويت، حيث يرون أن التصويت يجب أن يحمل عنوانًا واحدًا وواضحًا هو "غزة"، أي لصالح الحزب الذي عبر عن إدانته الصريحة للحرب المدمرة في غزة، وعارض سياسات ومواقف حكومة ترودو التي لم تخفِ دعمها العلني للحرب.

يرى أصحاب هذا الرأي أن هذه الحرب يجب أن تكون بمثابة معيار فاصل وحقيقي لتحديد وجهة الصوت المسلم في هذه الانتخابات، معيار يميز بين من فعل وقال كل ما في وسعه لدعم إسرائيل، وتجاهل انتهاكها للعهود والمواثيق والقوانين الدولية، وأغمض عينيه عن مشاهد التدمير اليومي لمقومات الحياة في غزة أولاً، ثم في الضفة لاحقًا، ولم يكترث بمشاهد قتل الأطفال والنساء والمسنين المدنيين العزل.

الأحزاب والموقف من الحرب على غزّة

  • الحزب الليبرالي (الحاكم): لم يخفِ مطلقًا مساندته القوية لإسرائيل، معتبرًا إياها شريكًا استراتيجيًا ومهمًا في منطقة الشرق الأوسط. ولذلك، سارع إلى إعلان دعمه الكامل لها دون تحفظ يذكر تقريبًا، قبل أن يضطر إلى تليين موقفه قليلًا في وقت لاحق، وذلك أمام إصرار إسرائيل على مواصلة الحرب وتوسعها في استهداف المدنيين العزل، وفي تدمير كل مظاهر الحياة في غزة، في تحدٍ سافر للقوانين والمواثيق الدولية، مما جعلها دولة مارقة، وجعل قادتها السياسيين والعسكريين عرضة للمساءلة القانونية عن طريق مذكرات توقيف صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

وعلى الرغم من كل ذلك، لم يتراجع الحزب الليبرالي عن دعمه لإسرائيل، بل أكد في أكثر من مناسبة على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجمات حماس، ووصل الأمر بزعيمه السابق ترودو إلى حد التصريح بأيام قليلة قبل مغادرته منصبه بأنه "صهيوني ويفتخر"، دون أن نرى أو نسمع أي اعتراض على ذلك من قادة وأعضاء حزبه وحكومته.

لم تتوقف حكومة الليبراليين، في عهد ترودو، عن تقديم الدعم العسكري لإسرائيل في مناسبات عديدة، وذلك عبر إرسال آليات أو معدات دفاعية غير قاتلة، بالإضافة إلى الدعم السياسي والدبلوماسي المستمر.

فقد عمدت كندا إلى تزويد إسرائيل بمساعدات إنسانية، وببعض الصادرات الدفاعية التي تشمل تكنولوجيا طبية ومعدات عسكرية أخرى. وقد أثار هذا الدعم العسكري الواسع جدلًا واسعًا في كندا، خاصة مع تصاعد وتيرة العنف والتدمير وقتل المدنيين في غزة.

  • حزب المحافظين التقدمي: لا يخفي هو الآخر تأييده ودعمه المطلق لإسرائيل، معتبرًا إياها "شريكًا ديمقراطيًا" في منطقة الشرق الأوسط. كما يعلن تأييده الكامل لما يسميه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجمات حماس "الإرهابية"، كما يسميها، داعيًا المجتمع الدولي إلى تصنيفها (حماس) "منظمة إرهابية"، وإلى اتخاذ إجراءات صارمة ضدها لوقف اعتداءاتها المتكررة على إسرائيل.
  • حزب الكتلة الكيبيكية: اعتاد على اتخاذ مواقف من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تميزه عن الحزبين السابقين، حيث يجمع بين تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني ونقد العمليات العسكرية الإسرائيلية ضده، وخاصة التي تستهدف المدنيين، دون أن يخفي في الوقت ذاته تأييده لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

كما أن الحزب لم يبدِ أي اعتراض على مواقف وسياسات الحزب الليبرالي الحاكم الداعمة لإسرائيل في حربها الشرسة على غزة. وتبقى المشكلة الأساسية في مواقف هذا الحزب الحادة والسلبية تجاه قضايا المسلمين، وخاصة في مقاطعة كيباك، في مسائل الهوية مثل الحجاب والصلاة، إلى الحد الذي يرى فيها العديد من النشطاء المسلمين نوعًا من الإسلاموفوبيا المتجذرة. لذلك، اعتاد المسلمون على عدم التصويت لمرشحي هذا الحزب.

  • حزب "الديمقراطيون الجدد": يتميز عادة بمواقفه المنتقدة لإسرائيل والمتضامنة مع الفلسطينيين في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

فقد دعا الحزب في مناسبات عديدة إلى الوقف الفوري للحرب والاعتداءات على غزة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، واحترام القوانين والمواثيق الدولية المنظمة للنزاعات والحروب، والضامنة لحقوق الإنسان والشعوب.

لقد أظهر الحزب قدرًا ملحوظًا من التمايز عن المزاج السياسي العام السائد في كندا فيما يتعلق بالحرب على غزة، حيث وقّع حتى لحظة كتابة هذا المقال 153 من مرشحيه لهذه الانتخابات على رسالة وجهها ناخبون لمرشحي جميع الأحزاب على منصة "صوّت فلسطين" تدين بوضوح الحرب على غزة، أي بما يعادل 68% من إجمالي عدد المرشحين الـ 224 الذين وقّعوا على الرسالة. يأتي بعدهم 58 من مرشحي حزب الخضر بنسبة 26%، بينما لا يوجد من بين الموقعين أي مرشح عن حزب المحافظين، ومرشح واحد فقط عن حزب "الكتلة الكيبيكية"، و12 من مرشحي الحزب الليبرالي، بما نسبته 5.3% من إجمالي المرشحين الموقعين. وتجدر الإشارة إلى أن عدد الدوائر الانتخابية الفدرالية يبلغ 338 دائرة.

بصورة عامة، تتسم مواقف الأحزاب السياسية الكندية بالتباين بشأن الحرب الدائرة في غزة، وذلك بناءً على تنوع خلفياتها الأيديولوجية وتوجهاتها السياسية المتباينة، ولكن يتفق الجميع على الأهمية القصوى للدبلوماسية والعملية السياسية في التوصل إلى حل عادل ودائم للنزاع.

ومع ذلك، يظل هناك تباين كبير في مستوى الدعم المقدم لإسرائيل والفلسطينيين، حيث تميل الحكومة الليبرالية وحزب المحافظين إلى دعم إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها وحماية أمنها، مع الدعوة في الوقت ذاته إلى حماية المدنيين الفلسطينيين. في المقابل، يدعو حزب "الديمقراطيون الجدد" والكتلة الكيبيكية إلى حل أكثر توازنًا، مع التأكيد على حقوق الفلسطينيين وإدانة العنف الإسرائيلي المفرط.

التصويت لغزة

تبدو الصورة جلية وواضحة أمام المسلمين الكنديين، الذين يجدون أنفسهم من حيث المبدأ الأخلاقي والتضامن الإسلامي والإنساني أمام معيار واحد لا ثاني له لتحديد وجهة تصويتهم في هذه الانتخابات، وهو الموقف من حرب الإبادة الجماعية التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني في غزة.

وبناءً على قراءة دقيقة لخريطة مواقف الأحزاب من هذه الحرب، يظهر حزبُ "الديمقراطيون الجدد" باعتباره الأجدر والأحق بنيل أصوات المسلمين، لأنه الحزب الوحيد الذي أدان بشكل صريح وعلني الحرب الشرسة على غزة. أما بقية الأحزاب التي ساندت إسرائيل في حربها العدوانية على غزة، أو امتنعت عن إدانة جرائمها، وخذلت النضال الفلسطيني العادل باعتباره حركة تحرر وطني مشروعة، وأصرت في المقابل على وصمه بالإرهاب، فيجب ألا تحظى بأي نصيب من أصوات المسلمين. بل يجب مقاطعة فعالياتهم واجتماعاتهم الانتخابية، وعدم فتح أبواب المساجد والمراكز الإسلامية أمامهم للتحدث إلى المسلمين وطلب أصواتهم.

تمثل هذه الانتخابات فرصة تاريخية لتثمين الصوت الانتخابي المسلم واستثماره على الوجه الأمثل لخدمة قضية نبيلة وعادلة، هي قضية التحرر الفلسطيني. كما أنها فرصة سانحة لتجميع المسلمين على اختلاف مشاربهم حول قضية مركزية في حجم الحق الفلسطيني، من أجل تعزيز أسباب التقارب والوحدة، وتجاوز الخلافات الثانوية في القضايا الأخرى.

تمثل هذه الانتخابات أيضًا فرصة حقيقية للفرز والتمييز، حتى داخل الصف المسلم في كندا، بين الأجيال التي اعتادت على التصويت لصالح الحزب الليبرالي، نظرًا لسياساته المتساهلة في مجال الحريات والهجرة، ولوقوفه في منطقة الوسط السياسي فيما يتعلق بقضايا الهجرة والمهاجرين، في مقابل الأحزاب الأخرى التي تميل نحو اليمين الأخلاقي والاجتماعي، مثل حزب المحافظين، أو اليمين السياسي، مثل الكتلة الكيبيكية. وفي المقابل، يبرز جيل جديد من الشباب، سواء من مواليد كندا أو الوافدين إليها حديثًا، ممن يتبنون مقاربة سياسية مختلفة تمامًا عن مقاربة أسلافهم، تجمع بين المبدئية والواقعية، جيل يتبنى مواقف ديناميكية ومرنة بحسب المصلحة.

هذا الجيل الشاب هو الذي قاد ولا يزال يقود جميع التحركات الداعمة لغزة وللحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والمنددة بسياسات الحكومة الكندية الداعمة لإسرائيل، وهو الجيل الذي يقود الحملة الحالية من أجل التصويت لغزة.

فهل ستكون هذه الانتخابات بمثابة نقطة تحول حاسمة في الوعي السياسي لدى المسلمين الكنديين، ولحظة تاريخية لتجديد النخب المسلمة بولادة جيل جديد بوعي متجدد وبمقاربات مبتكرة، يثمن الصوت الانتخابي المسلم ويمنحه قيمته الحقيقية في سوق الانتخابات، مما يعزز من موقعهم ودورهم ويزيد من تأثيرهم لخدمة القضايا العامة للمجتمع الكندي وقضاياهم الخاصة؟

وهل سيكون الموقف المتخذ في هذه الانتخابات بمثابة جسر متين يربط بين هذا الجيل المسلم الجديد، وبين الأحرار والشرفاء من الكنديين الذين عبروا في الساحات والميادين عن رفضهم لسياسات كندا الداعمة لإسرائيل، وعن تضامنهم الكامل مع الحق الفلسطيني، معتبرين المقاومة حقًا مشروعًا وحركة تحرير وطني في حاجة ماسة إلى كل أشكال الدعم والمساندة؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة